الأربعاء، 27 نوفمبر 2013

ﻻ تكره أخاك لعيب فيك

بسم الله الرحمن الرحيم

قد يمرّ الواحد منّا بمواقف تجعل الآخر يعبس في وجهه أو يسخط ويتلفظ بأبشع الكلام. وقد نستغرب كثيرا لمّا نرى الهوّة الشاسعة بين ما قلناه وما عاملنا به الآخر. يحسن أحدنا النية وفي كثير من الأحيان القول أيضا، بل يبتسم وينتقي ألطف العبارات للتعامل مع الطرف الآخر مهما كانت علاقته به. لكن ما يروعه إلا أنه يتلقى ردّا يليق بشخص قال سفاهة...

ينقسم الناس هنا إلى : من يضيق صدره الطرف الآخر. قد يرى أن الأمر يستوجب "الجدّية" ومن "الجديّة أن نتشدد في الكلام وأن نقطّب جباهنا". فيرى في الآخر استهتارا ويرى أنّه من واجبه إضافة شيء من الصرامة "للزينة" حتّى يلعب دور المرشد أو يُظهر أن مخاطبه خفيف العقل.
وهناك من في لمح البصر، أدرك ذلك الشخص المستوى الراقي الذي تحدّث به مخاطبه الأوّل، فبحث في سجلّ كلماته وأعماله عن ردّ يليق به، لكنّه لم يجد شيئا في هذا المستوى.. فبحث في سجلّ غيره (وأوّلهم والداه وأقرباؤه) وعن ردّة فعلهم في مثل هذه المواقف (فالإنسان يقلّد بالفطرة، سواء سلمت أم لم تسلم). فلا يستحضر إلا بعض المشاهد البعيدة من سخرية واستهزاء بمثل هذه الأقوال.. فلا يسعه إلا أن يقلّد ما وجد عليه أبويه وأصحابه، فيستهزء بدوره ويترفع عن الآخر..
ويوجد صنف آخر إمّعة، يشعر بحقارة مستواه، الذي لا يغادره إلا إذا وجد نفسه في مجموعة، فتنتابه الغيرة على نفسه، ويزمجر غاضبا، كارها الموقف الذي هو فيه وكارها نفسه والقيود التي ترك الدهرَ يضعها عليه، جاهلا (أو متجاهلا) أنها قيود وهمية وأنها غير مقفلة. يحاول تدارك هذا الفارق بالغضب والانفعال، كما حاول الآخر تداركه بالسخرية، والذي قبله بالتظاهر بالجدّية والتقليل من قيمة المخاطب. حينها ﻻ ينفع التظاهر بالتعالي وﻻ الخوض في كلام لا علاقة له بالموضوع في الأساس، ﻷنه مجرّد محاولة يائسة لإنقاذ الموقف.. الإعتراف بالخطأ فضيلة.
قال الشاعر:

كن كالنجم ﻻح لناظر على سطح الماء وهو رفيع *** وﻻ تك كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجو وهو وضيع

كِبر...

قال صلّى الله عليه وسلّم : "‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ فَجَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ."
رواه الترمذي.

يقول الشيخ عبد الكافي :
"لما تتعامل مع إنسان تجده كريما! تعطيه ابتسامة يعطيك كلّ ما عنده، بقطعة أرض طينيّة إذا غرست فيها حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة. وهناك أناس كالرّمل، تضع فيها البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهادي (...) وكلّ المحيطات، يتشرّب الماء والعطاء وكأنّه ما أعطيته شيئا."


إذا أردنا أن نتدارك أنفسنا في مثل هذه اللحظات، يجب اتباع خطوتين مهمّتين : الأولى هي أن لا نظلم مخاطبنا. فترك الذنب أولى من فعل الخير. والظلم ذنب عظيم، أعاذنا الله منه.
والثانية: أن نعترف بخطئنا وأن نضع أنفسنا للحظات في موضع الآخر حتى تختفي معظم أسباب الإنفعال والغضب، ثم نخطو تلك الخطوة الصغيرة لكسر القيود الوهميّة التي تحول بيننا وبين التصرّف السّليم، لوضع كلّ شيء في مكانه الطبيعيّ. قال الله عزّ وجلّ: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن : 55)
 {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (الرعد : 22) اللهمّ اجعلنا من هؤلاء.

ﻻ أزعم أنني أحطت بكلّ جوانب الموضوع، إنما هي مجرّد محاولة لفهم الآخر وللإصلاح ما استطعت...


الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

اﻵن حقا بكت..

كانت تتصفح بعض المنشورات على  الفيسبوك الذي منذ دخلته وهي تكرهه...
قرأت واطلعت.. بإصبعها مسحت عينها فشعرت أنها مبتلّة. هل كانت تبكي؟ هل من المعقول أنها بكت أو ذرفت دمعة ونسيتها بهذه السرعة؟ هل هو معقول أن يكون للأشياء المبكية أثرا يزول بهذه السهولة؟؟؟؟ الآن هي تبكي حقا عن قسوة قلبها ووهن ذاكرتها.. ليست الذاكرة بذلك المعنى العلمي، وإنما ذاكرة القلب الذي تصلّب.. فعدنا لا نبحث إلا عن أشياء تدور حولنا... صرنا نتحرّق شوقا لمعرفة من علّق على منشور من مناشيرنا... كأننا لم ننشره عن اقتناع بحت، وإنما ليتلقى إعجاب الآخرين، كأنه دعم لنفوسنا الصغيرة التي لم تعرف أين تبحث عن قيمتها.
الآن تبكي حقا على الحالة التي وصلت إليها. ما تفعله مثل من يطعم أحدهم طعاما جافا مالحا وهو على وشك الموت من العطش.
لقد جفّت نفسها... تعطّشت لأشياء كثيرة وسادها فراغ مخيف. لكن هل نملأ الفراغ بباطل؟ هل نملؤه بالرياء؟ هل نملؤه بالقسوة؟؟؟ كيف وصلت إلى هذه الدرجة من انعدام الإحساس؟!
هي هنا لست هي، ولن تكون هي إلا حيث توجد العين التي تتوق نفسها إلى الشراب منها.
هل حقا لا ينفع العقار فيما أفسده الدهر؟
لا تقبل بهذا، وإن قبلت فإنها قد أعلنت موتها.

الخميس، 5 سبتمبر 2013

أطيب الثمر

ﻻ تزال تذكر تلك الأيام.. كانت تضع في أذنيها تلك السمّاعات وتستمع بكلّ انتباه وتركيز إلى الدروس، وقلبها ينبض ويمتلئ بما تعطّش إليه طوال تلك السنوات الضائعة من حياتها.  كانت كالأرض التي مرت السنوات دون أن تنزل عليها قطرة ماء واحدة، وفجأة جاء الصيب النافع الطيّب ليملأها حياة وبهجة. كانت لديها أسئلة عالقة أجّلتها إلى أن يحين وقتها، ولم تكن تدري آنذاك متى يحين هذا الوقت.
تحدّثت مع من قَطَع طريقا طويلة وشاقة حتى وصل إلى الإسلام وإلى تعلُّم العربية. كيف لهؤلاء أن يسبقوها بأشواط وهي التي وُلدت ونشأت في بيئة مسلمة، والعربية هي لغتها الأمّ؟ رأت منهم إخلاصا تامّا لله، وإسلاما صادقا ونقيّا من كلّ الشوائب، وما أكثرها! أُعجبت بإيمانهم، وبدأت تشعر بتقصيرها المخجل، ولم تلبث حتى عقدت نيّة الالتزام، ولو كان بطيئا.. وهبها الله صحبة الصالحين ورغدت عيشا معهم مع أنّها كانت تعيش لوحدها.


 وسرعان ما استيقظت من ذلك الحلم الجميل، وواجهت أخيرا من حولها وهم يخوضون فيما ﻻ يعلمون...  يقولون أن الدين يأمر الإنسان بإعمال عقله، لكن هل يُعقل أن يعمل عقله لتغيير الدين؟ هل يدمّر الدين نفسه؟

يقولون أننا لسنا رُسُلا ولا صحابة، ولن نكون. فلنعش كما يعيش الناس في عصرنا. ألهذه الدرجة عميت أبصارنا عن ذنوبنا؟ ألهذه الدرجة استغنينا عن الأجر؟ ألهذا الحد نحن متأكدون من إخلاصنا لله وأنه قبل عملنا؟ وما فائدة القرآن والقَصص إن لم نتّعظ به؟ نحتفل كل سنة بعيد الأضحى وكلنا نعلم قصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، نعلم مدى إخلاصهما لله تعالى ألا نتّعظ ولو بجزء من المائة؟

يقولون ما العيب إذا قمنا بكذا وكذا من محرّمات  وبِدع فنحن لن نضرّ أحدًا.. يكنّون الحقد لمن أراد أن يستقيم،أليس من مظاهر الاستقامة أن يحسّن سلوكه مع غيره، وبهذا يكونون هم المستفيدين من التزام غيرهم؟ يعترفون بهذا ولكنهم يحاربون ما بداخله من معتقدات بغض النظر عن أفعالهعازمون على مقاومة الإسلام حتى في قلوب الناس، ولو بدا منهم أحسن الخُلق.

إن الإسلام ﻻ يتوجّه بالخطاب إلى العلماء فحسب، بل إلى جميع الناس، ذوي العقل السليم، أما الفطرة السليمة فهي تمهّد لهذا الخطاب العظيم وتؤيده.

يقولون تشدّد. كم أكره هذه الكلمة. هل يقصدون أن من  أراد تطبيق أحكام الإسلام كلها يُسمّى متشددا؟ هل الرسول عليه الصلاة والسلام كان متشددا، حاشاه؟
بسيطة، أليس كذلك؟ كل شيء رهين لحظة صدق مع الله جل وعلا يعترف المرء فيها بغلطه ويغيّر مساره إلى ما يرضاه خالقه.

يقولون زماننا ليس كزمانهم... من أي زاوية يتحدّثون؟ هل من زاوية التاريخ؟ أم التقدّم العلمي؟ وعلى كلّ حال، هل يعني هذا أن نترك أحكام الإسلام جانبا، وأن نبتدع وأن نفعل ما كان عليه آباؤنا ، أو أغرب من ذلك، أن نتّبع من ينفق الأموال لصدّ المسلمين ولجعل حياتهم شاقة حيثما كانوا؟
لمَ هان الدين في نظرهم كلّ هذا الهوان؟

 يرفضون الجهاد بأنواعه، ويقبلون أن يكون للدولة جيش يدافع عنها. أليس المؤمنون هم جيوش الدولة الإسلامية؟

 ينظرون إليهم تلك النظرة المليئة بالاشمئزاز والنفور، ويطنبون في شتم أولئك "الملتحين والمنتقبات"، فما أكثر تلك الحوارات الطويلة حول "تخلّفهم وجهلهم بقيم الحضارة" من جهة، و"خطورتهم ﻷنهم ﻻ يترددون في القتل أو في التضحية بحياتهم من أجل الدين" من جهة أخرى.
 ﻻ يفهمون لِمَ قيل أن القرآن صالح لكل زمان ومكان. فنظرتهم "التقدّميّة" ترى أن الزمان قد تطوّر وأنّه يجب "تعديل بعض الأحكام" لتتأقلم مع الواقع، كالربا وغيره...

 يظنّون أنهم غسلوا أدمغة أبنائهم "بتلك الأفكار الإرهابية". كيف لتلك اﻷدمغة، التي بعضها أحرز نتائج درسية متميّزة، أن يحمل تلك "اﻷفكار الرجعية"؟ كيف يرجحون النقل على العقل؟ ﻻ يُعقل!! أﻻ يتساءلون للحظة ماذا لو كان الآخرون على صواب؟



 يتفوّهون بألفاظ جارحة وتعلو أصواتهم بحجج واهنة وﻻ يخلو حديثهم من قلّة التناسق... لكن المرء ﻻ يزال يرتقي في سلّم الرقيّ حتى تبدر منه الكلمة الطيبة عندها يُقذف بالكلام الجارح.

كن كالنّخيل عن الأحقاد مرتفعا *** يُرمى بصخر فيلقي أطيب الثمر



هذا ما يعلّمه الإسلام.. وهو كلّ لا يتجزّأ.




السبت، 31 أغسطس 2013

حسن الظن / سوء الظن

بسم الله الرحمن الرحيم


لم أختر الموضوع لكي يكون أوّل ما أفتتح به المدوّنة، بل كنت أفكّر في موقف فقررت مشاركة رأيي، مع أنني لست من البارعين في الكلام وﻻ في الكتابة.

قال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات 12)

تساألت كيف يحسن الإنسان الظنّ؟ وكيف يسيئه؟

الظنّ هو مرآة كاشفة للنفس وخباياها، لا تكذب، وإن كذب الإنسان فإنّما يكذب على نفسه. الظنّ شعور داخلي ينتابنا عندما نتعرّض إلى موقف نجهل مآله بالتحديد، فإمّا أن نميل إلى التفاؤل وظنّ الخير بالله أو بالآخرين، وإمّا العكس. فأمّا حسن الظنّ بالله جلّ وعلا، فهو موثوق الصّلة بالإيمان به وبمعرفته، ليس بالتجربة. المؤمن يعلم أنّ أمره كلّه خير، وأنّ الله يجيب من دعاه بقلب صادق مخلِص. فإذا أصابه ما أصابه من الشرّ، فيعلم أن حسن التصرّف والثبات والصبر يرفعونه درجات عند الله. وإذا دعا ولم يستجب الله فورًا{وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُوﻻً} (الإسراء : 11) فيعلم أن الله سيستجيب إما في الدنيا، في الوقت الذي يريده الله لا الذي يريده العبد، وإمّا في الآخرة، يرى جبالا من الحسنات، وهي الدعوات التي أجل الله تلبيتها إلى يوم الحساب. وفي حالة الإستجابة أو غيرها، يكون من الشاكرين*.

وأمّا حسن الظنّ بالآخرين، فأراه مِرآة للنفس وما تقدِر عليها، مُسقطًا على الآخرين، أي أن مقدار الخير الذي أتوقعه من غيري هو مقدار الخير الحقيقي الذي في داخلي. وبالتالي، إذا اتّهمنا أحدهم بتُهمة ونحن عاجزون أن نجزم أنه قام بها فِعلا، فذلك قد يعكس إمكانية قيامنا نحن بتلك الفِعلة. نفس الشيء إذا قُلنا أن أغلب النّاس في ضلال، فذلك دليل أننا نحن في ضلال والعياذ بالله. قال صلى الله عليه وسلّم "إذا قال الرّجل : هلك النّاس، فهو أهلكهم" (رواه مسلم). كذلك الخير. إذا أحسنت الظنّ بأخيك المسلم، فهذا يعني أنّك أيضا قادر على فعل ذلك الخير في نفس الموقف. كما أن الله تعالى أمرنا بحسن الظنّ بالمسلمين تعظيمًا لديننا ولمن يتّبعه. فلا يليق بمن ارتقى بالإسلام أن يُساء الظّنّ به ولو أذنب. 
وكما قال أحد الصالحين"إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذرا واحدا إلى سبعين عذرا، فإن أصبته، وإلا، قل لعل له عذرا لا أعرفه."
فحسن الظنّ من رأيي حافز يدفعنا باستمرار إلى تنقية أفكارنا وتصفية قلوبنا من الشوائب العالقة، حتى نطهر منها تماما وﻻ مجال لها أن تعود.
فسبحان من أمرنا بإحسان الظنّ فيه جلّ وعلا وفي المسلمين. وما أجملها من راحة.

_____________

*تذكرت هذا المقطع وأنا أدوّن.
نحن قوم إذا أٌعطينا صبرنا، وإذا ابتلينا شكرنا..